http://www.alquds.co.uk/?p=998126 رابط المقال في صحيفة القدس العربي الاسبوعي
الشخصية الجهادية ومحاولة الخروج عن صورتها النمطية
مسلسل أبو عمر المصري
القدس العربي الاسبوعي - مروان ياسين الدليمي
Aug 18, 2018
وسط عدد كبير من اعمال درامية مصرية تم عرضها في شهر رمضان 2018 كان من الصعب متابعتها جميعها، لكن من السهولة بمكان التقاط الاعمال الجيدة التي تستحق المشاهدة، فالعمل الفني الذي يتوفرعلى الحد الادنى من النضج في الايصال، من السهل جدا ان يحقق تأثيره المتوخَّ.
حكاية المسلسل تم اقتباسها من رباعية للكاتب مصري "عز الدين شكري فشير"حيث صدر الجزء الاول منها"مقتل فخر الدين" 1995/ والثاني "اسفار الفراعين" 1999،والثالث "غرفة العناية المركزة"2008، والرابع "ابو عمر المصري" 2010 ،والاجزاء الاربعة كتبها المؤلف ليتابع مسار شخصية "فخرالدين "الذي عاش في مدينة المنصورة المصرية ثم تخرج من الجامعة ليصبح محاميا ومن بعدها يتحول الى "ابو عمر المصري" بعد ان يصبح عضوا في تنظيم القاعدة . ويمكننا ان نتخيل مدى الجهد الذي بذلته كاتبة السيناريو "مريم نعوم"برفقة مساعدها "محمد المصري" اثناء عملية تحويل الاجزاء الاربعة الى مسلسل،خاصة وان الاحداث تتوزع على مدن وقارات اوربا وافريقيا واسيا،بذلك سيجد المتلقي نفسه ذاهبا مع الشخصية الرئيسة "فخرالدين" من القاهرة الى بلجيكا الى السودان الى افغانستان ومن ثم العودة الى القاهرة.
اشكالية الشخصية المحورية
امام قارىء الاجزاء الاربعة تتضح شخصية"فخرالدين" كما لو انه صورة لبطل مثالي يشتبك مع الواقع دفاعا عن العدالة،ليكون في مواجهة غير متكافئة ضد شبكة منظمة وشرسة من الفاسدين ،وتقف شخصية "سمير العبد"رجل الاعمال الطامح الى عضوية مجلس النواب ومنصب الوزير لتمثل رمزاً صارخا لسلطة فساد يستشري في بنية ومؤسسات المجتمع لايتردد في تصفية من يقف عقبة في طريقه. واشارة المواجهة المحتملة مع مكائد سلطة الفساد بدأت في اللحظة التي يضطر فيها"فخر"ان يعمل في مكتب كبير للمحاماة ارضاء لحبيبته"شيرين "التي جسدت شخصيتها الممثلة"اروى جودة "وهنا يقف امام امتحان عسير لمبادئه عندما يتم تكليفه للدفاع عن"سمير العبد "ضد العمال الذي يطالبون بحقوقهم،إلا انه يحسم صراعه الداخلي في اللحظات الاولى من المرافعة،فيقلب دفاعه لصالح العمال،ولن يعدو هذا الموقف الا ان يكون بمثابة حجر ثقيل يسقط في بركة آسنة لتفوح منها روائح قاتلة،فيتلقى اولى الضربات الموجعة بالطرد من مكتب المحامات وليدخل في معركة خطرة مع قوى غاشمة تتحرك مابين عالمي السياسة والاقتصاد مجسدة بشخصية "سمير العبد"رجل الاعمال الذي لايتردد في سحق اي شيء يقف عقبة امام رغباته.
"فخرالدين"الذي جسده شخصيته باقتدار الممثل"احمد عز "يدفعه انتمائه الصادق للناس المهمشين تحت رحمة سلطات تستنزف اعمارهم الى ان يشكل مع مجموعة من زملائه واصدقائة الاربعة رابطة صغيرة للدفاع عن قضاياهم امام المحاكم باجور رمزية.هذه الحركة تضعهم تحت رصد مكاتب المحاماة الكبيرة والمرتبطة برموز الفساد في السلطة واجهزتها الامنية فيتم ملاحقة بعضهم وتغييب البعض الاخر في المعتقلات وآخرين يتم تصفيتهم،والمفارقة التي سترسم مصير"فخرالدين"ان الرصاصة التي كانت تستهدفه اصلا تستقر في صدر"عيسى"ابن خالته،الذي تخرج حديثا من الجامعة والذي كان يستعد للسفر خارج مصر بعد ان نال منحة للدراسة في بلجيكا،والرصاصة كانت معبأة بالمقادير التي سيواجهها "فخرالدين " في قادم الايام،وازاء ذلك لم يكن امامه من سبيل الا ان يستجيب لرغبة اصدقائه ورجائهم في ان يغادر البلاد منتحلا شخصية "عيسى"وهكذا يجد نفسه في لحظة قلق شديدة وهو ينتظر في صالة مطار القاهرة بعد ان يتفاجأ بجلوس"سمير العبد"الى جانبه على المصطبة ومعرفته بتفاصيل عملية انتحاله لشخصية "عيسى" ، (كان هذا اللقاء من اجمل مشاهد المسلسل)، ومع ذلك يتركه "سمير العبد"يغادر البلاد،على عكس ماهو متوقعا منه،ربما كان ذلك اشارة رمزية الى ان السلطة برموزها الفاسدة،تدفع باتجاه ان يغادر البلاد كل الذين تتأجج في داخلهم قيم العدالة وان ذلك غاية مُناها .
زمن الاحداث
احداث المسلسل تبدأ عام 1993 وتأخذ في النمو بشكل سريع حافلة باحداث عاصفة تاخذ بشخصية "فخر" الى مالم يكن قد وضعه في حساباته،واكثر ما يتكشف له ان الموت يطارده اينما اتجه ودائما ماينتزع منه كل شخص يحبه،فالخسارات الفادحة تلاحقه من اللحظة التي اغتيل فيها "عيسى" ابن خالته بسببه، ومن ثم خسارته لحبيبته التي تتزوج من شخص يعمل في السفارة المصرية في بلجيكا وتسافر لتقيم معه هناك.ورغم ابتعاد "فخرالدين "عن الخطر الذي كان يلاحقه في القاهرة إلا انه لم يستطع ان يتأقلم مع وضعه الجديد في بلجيكا،ويفشل في تعلم اللغة الفرنسية،ولهذا تلغى عنه المنحة. بذات الوقت يكتشف الدبلوماسي المصري ان زوجته على علاقة مع حبيبها السابق"فخر"فتتدهور العلاقة بينهما وتصل الى الانفصال ولتنتهي بموتها في المستشفى بعد ان تلد الطفل الذي حملته من حبيبها، وتفاديا للملاحقة من قبل السلطات البلجيكية وسفارة مصر،وخشية ان يفتضح امره خاصة وانه قد انتحل شخصية اخرى،اضافة الى انه قد تسبب في النهاية المفجعة لزوجة الدبلوماسي،يغادر الى السودان بعد ان يترك طفله من حبيبته عند زوجة صديقه المصري الذي وقف الى جانبه في غربته وساعده ايضا في ان يعمل محاسبا في شركة كبرى لاستيراد الابقار في السودان وليكتشف في ما بعد ان الشركة ماهي الا غطاء لتنظيم القاعدة وانه قد تورط ولم يعد ممكنا الخروج من هذه المنظومة،فيسافر مع عناصر التنظيم الى افغانستان ويتدرب هناك تحت اشراف احد الجهاديين الذين ينتمون الى المسلمين الصين"الغور"وربما هذه هي المرة الاولى التي تطرح فيها قضية"الغور" ، وعلى ضوء ماشاهده من مواقف متطرفة تتوفر في داخله قناعة قوية بان يترك التنظيم ويعود الى بلاده بتشجيع من المعلم الصيني الذي ايقظ في داخله الاحساس بلاجدوى البقاء في مثل هذا المكان.
بعد ان يوافق زعيم التنظيم الجهادي على اعفاء"ابو عمر المصري" من بيعة التنظيم،يقرر العود الى القاهرة في نفس الفترة التي هاجم فيها تنظيم القاعدة برجي التجارة في نييورك بتاريخ 11سبتمر عام 2011 ، فيعود الى وطنه بمساعدة من صحفية فلسطينية ،مثلت شخصيتها "امل بشوشة " كانت في ما مضى زميلته في الجامعة ولكنه لم يكن يعرفها انذاك إلا انها كانت معجبة به وبنشاطه الثوري داخل الحرم الجامعي،وتشاء الصدفة ان يلتقيا في افغانستان اثناء تعطل سياراتها بينما كانت في طريقها ان تجري تحقيقا صحفيا حول المجاهدين العرب هناك.
الشخصية بظلالها العميقة
التجربة التي عاشها"فَخر"لم تتمكن من ان تسحق انسانيته لكن الكثير من مشاعره تثلّمت،وانزاحت الكثير من ملامح شخصيته المثالية لتولد مكانها ملامح شخصية اخرى مثقلة بمشاعر الكراهية ازاء كل الذين تسببوا في بعثرة احلامه، حتى بات يعيش صراعا داخليا مع ذاته من بعد ان ارغمته الظروف على ان يكون في مكان وزمان لاينتمي لهما،هذا الجانب من الشخصية يقف في اوليات ماتميز به هذا العمل لانه حاول ان يقدم لنا قراءة عميقة لشخصية شريحة كبيرة من المتعلمين والمثقفين الذين سقطوا في حبائل التنظيمات الجهادية،بهذا الاطار اختار صناع العمل ان ينسجوا لنا بنية فنية ابتعدوا فيها عن التنميط الذي اعتادت ان تسوقه الكثير من الاجندة الاعلامية والفنية حول هذه العناصر. بذلك يكون سيناريو المسلسل قد اخضع قراءته الفنية لعناصر الجماعات الجهادية الى قدر كبير من الموضوعية وهذا مايمكن ملاحظته بوضوح اذا ماتابعنا الكيفية التي رسم فيها شخصية قائد التنظيم الذي يشير فيه الى "اسامة بن لادن"من غير ان يسميه بالاسم،إذ لم تهيمن الصورة المصدرة عبر الاعلام بقدر ما شاهدنا صورة تحمل الكثير من الملامح الذاتية التي تدعو الى تأملها،واظن ان المهمة الاولى للكاتب الدرامي ان يتمتع بقدر كبير من الجرأة عندما يتصدى لشخصيات عامة تنقسم حولها الاراء .
من الناحية الفنية ايضا ينبغي ان نتوقف قليلا امام مشهد لقاء "ابو عمر المصري"مع الصحفية الفلسطينية في غرفة الفندق في الحلقة التي تحمل الرقم" 22 "بعد ان غادر التنظيم نهائيا،فقد نجح المخرج في ان يقدم لنا مشهدا مفعما بالاحاسيس الدافئة اثناء ما كانت الصحفية تبوح بمشاعرها التي كانت تخبئها في داخلها لزميلها في الجامعة "فخر الدين "وفي رحلة بوحها تمر على لحظة خروجها من مدينة "غزة"التي تعيش زمن الحرب والتحديات الى مصر لدراسة الاعلام.في هذه المرحلة من سيناريو المسلسل بدأنا نتابع شخصية "فخر الدين "وهي تتحول الى"ابو عمر المصري"رغم انفصاله عن تنظيم القاعدة،حيث لم يعد ذاك الشاب الذي خرج قبل عدة اعوام من القاهرة ومشاعر الخوف تتلبسه خشية ان يقع في قبضة السلطات،اصبح شخصا آخر يعتمد القتل بيديه وسيلة لتصفية خصومه،فتساقطتت جثث ضحاياه حال عودته،ابتدأ مِن عمِّهِ الذي حرمه من الميراث،والدبلوماسي المصري الذي خطف منه حبيبته،واخيرا سمير العبد الذي احال احلامه ونهاراته المثالية الى جحيم يطارده اينما حلت به قدماه .
تقنية الاداء التمثيلي
الحديث عن الجوانب الفنية في العمل يفرض علينا الاشادة باداء الممثل "فتحي عبد الوهاب"الذي جسد شخصية "سمير العبد" بشكل ساحر،ومن يتابع تطور ونمو هذه الشخصية ستختلط لديه مشاعر المتعة والدهشة ازاء ما يمتلكه"فتحي عبد الوهاب"من مفردات تعبيرية تكسر توقع المتلقي حول ردود افعال الشخصية،خاصة في لقائه الاخير مع"ابو عمر المصري" قبل ان يقتله،فأداءه كان مفعما بالالهام بعيدا عن استعارة "كاركتر"مستهلك،والغريب ان هذا الممثل لم يحظ بما يستحقه من شهرة واهتمام من قبل المخرجين .
تقنية السرد الدرامي
اعتمد كاتبا السيناريو والحوار"مريم نعوم" ومساعدها"محمد المصري"على تقنية"الفلاش باك"الذي كان قد اعتمده كاتب الرواية الاصلي، فالعمل الروائي بالاساس اكتسب شكله الفني وحبكته من اسلوب التحقيق الجنائي المتعلق بقضية مقتل"فخر الدين"حيث يتولى المحقق "عمر فارس"متابعتها،مع ان هذه الشخصية لم تأخذ حيزا كافيا في سيناريو المسلسل فظهرت واختفت فجأة في عدد محدود جدا من المشاهد.
أتكأ اسلوب"الفلاش باك"على مشهد رحلة هروب"ابو عمر المصري"مع ولده "عمر"بعد ان نجح في ان ينقذه من حكم الاعدام الذي كان احد قادة تنظيم القاعدة مع انه كان زميلا وصديقا له في مصر،جسد هذه الشخصية الممثل "منذررياحنة"وحكم الاعدام اصدره انتقاما وغيرة من"ابو عمر المصري"لانه سبق له ان كشف طبيعته الانتهازية داخل التنظيم منذ وقت مبكر.واثناء رحلة هروبهما في الصحراء يحكي لولده تفاصيل حياته،بذلك كان اختيار اسلوب"الفلاش باك"مفردة تقنية اتاحت التعامل مع "الزمن"باعتباره وحدات منفصلة،تم بعثرتها بصيغة ارتدادية بما يخدم البناء الدرامي ويرصد التحولات التي تطرأ على الشخصيات والاحداث،بذلك ابتعد السيناريو عن المسار الافقي في التعامل مع الزمن وفق البناء التقليدي للاحداث .
رغم ان بعض المشاهد افتقدت الى المنطقية في التنفيذ(مشهد انقاذ ابو عمر المصري لابنه عمر من بين افراد تنظيم القاعدة )إلا ان المخرج "احمد خالد موسى" يحسب له قدرته على ادارة العمل والممثلين،بالشكل الذي تمكن من ان يخلق منظومة واقعية من العلاقات الانسانية بين الشخصيات .